- الى سائق تاكسي، تحول ابي بعد اغتيال الرئيس ابراهيم الحمدي في اكتوبر / تشرين 1977، ربما خشية الانتقام، بعدما كان ضابطا رفيعا في الجيش انذاك.
لم يكن والدي الراحل منتميا لاي فصيل سياسي، ولكن الصورة النمطية للجيوش العربية لطالما كانت مرتبطة بالحاكم في كل الاحوال.
وبما انني عضو في فريق بناء الدولة، قادتني الصدفة الى ان اكون معقبا على مقررات فريق الجيش والامن بمؤتمر الحوار الوطني، الذي كان يوشك على الختام في شتاء العام 2014.
لم انس ابدا تجربة والدي العميد امين دماج، وانا اتذكر مآلات اولئك القادة العسكريين المرصعة بزاتهم بالنياشين، بعدما شاركونا تجربة الحوار الفريدة بمالها وما عليها من ايجابيات، ومآخذ.
كان التشظي الذي طال المؤسستين العسكرية والامنية بعد ذلك، احدث دليل على دور الولاءات الجهوية والقيادية، في تفتت هاتين المؤسستين الوطنيتين.
- كيف لا يحدث ذلك الانقسام او الانتقام، في حين يعتقد هؤلاء العسكريون، ان مستقبلهم وترقياتهم، وعلاواتهم ونياشينهم مرتبطة بولائهم للحاكم، وليس بارادة الناس الذين يفترض انهم فوضوهم للقيام على مصالحهم.
لقد حاول مؤتمر الحوار الوطني، تصحيح هذا الاختلال في العقد الاجتماعي، واعادة صياغته او بالاحرى اظهار الحقيقة الغائبة.. حقيقة ان قادة الجيش والامن ومن قبلهم الحاكم يفترض بهم العمل منذ قيام النظام الجمهوري، للمصلحة العامة وليس لمصلحة الفرد.
وفي الحقيقة لم يفعل مؤتمر الحوار الوطني شيئا اهم من ذلك: اعادة الاعتبار لمصدر الحكم، والوظيفة العامة، وفي المقدمة السلطات الثلاث بما هي ممثل للناخبين.
ومع ذلك على مدى سبع سنوات من اختتام مؤتمر الحوار الوطني، يستميت البعض لتحميل هذا المؤتمر مسؤولية كل شيء تلاه بما في ذلك هذه الحرب الدامية، التي هرب اليها الشركاء في الطاولة، وتعبئة البسطاء من الناس وراء الخرافة واوهام الماضي، بعد ان كانوا قاب قوسين من الوصول الى دستور جديد، وقوانين ضامنة تضعهم في بداية طريق طويل لاستعادة السلطة، وتقديم بلدهم كشريك فاعل في الاسرة الدولية.
ان التشظي المدمر، وحالة اللايقين السائدة، والخوف من المجهول، والاحباط من اي سبيل للتغيير، هو ما تصدى له مؤتمر الحوار الوطني، استباقا لتفادي هذه الكلفة الباهظة من البشر والموارد والفرص الضائعة، ومنع تكرار صراعات وحروب الماضي، او تمجيدها.
وقد كنت احاول ان أفهم، لماذا لايذكر القائمون على صناعة القرار الحالي، بالقيم والمبادئ والاهداف التي جاءت بها وثيقة الحوار الوطني، حتى بدى الأمر لي، كما لو أن الطبقة الانتقالية الحاكمة، تتمني هي الاخرى نسيان كل شيء على صلة بتدوير الوظائف، والمساءلة وسيادة القانون وتكافؤ الفرص.
إن المزيد من الأجوبة على مبررات هذا التجاهل لوثيقة الحوار الوطني، ومقاومتها من قبل الحرس القديم، يمكن الحصول عليها في كل بند من مقررات القضايا الوطنية ياعتبارها منهج علمي لا روشتة علاج سحري.
ولهذا فان منهج استعادة الحكم، يبدأ بالتأكيد الدستوري على ان الشعب هو مالك السلطة ومصدرها، وتجريم الانقلاب على ارادته الحرة بالعنف أو القوة المسلحة.
ولممارسة هذه السلطة، عبر المؤسسات المنتخبة سيكون قائد الجيش ونوابه ومساعديه تحت مساءلة الهيئات التشريعية المعنية بالموافقة على تعيينهم، وبالتالي نقل الولاءات من دائرتها الضيقة، الى فضاء الصالح العام، والرقابة الشعبية.
إلى جانب هؤلاء، سيختار نواب الشعب رئيس جهاز الرقابة، والموافقة على محافظ البنك، والنائب العام، وكافة رؤساء ومسؤولي الهيئات المستقلة.
ولنا أن نرى ما يعنية ذلك على صعيد توازن السلطات، وتفادي صناعة الديكتاتور، واختطاف القرار والإرادة الشعبية.
بموجب مقررات الحوار، ليس بوسعنا رؤية هذا التضخم الفضفاض في وزارات الدولة التى ستؤول معظم صلاحياتها ومهامها الى هيئات مستقلة منتخبة عبر السلطة التشريعية.
ليس هناك وزارة للاعلام، بل مجلس للصحافة والاعلام، لا وزارات للتعليم بل هيئة للتعليم والبحث العلمي، وهيئة للشباب والرياضة، والاوقاف، والامومة والطفولة، وحقوق الانسان، والخدمة المدنية، والغذاء والدواء، ومجلس للثقافة والفنون والاداب، والاحتياجات الخاصة، وهيئة للافتاء من ذوى الكفاءة والحاصلين على الشهادات الاكاديمية المحكمة، الى غير ذلك من الهيئات المستقلة الخاضعة لمعايير الحكم الرشيد بدلا من الحقائب الوزارية المفرغة من وظائفها الخدمية والانمائية.
الكثير من الاشخاص الذين يقرأون هذا المقال، يأملون من واقع معاناتهم، فرض القيود على الاستخدام السياسي للاديان في الكسب الحزبي، والتعبئة الايديولوجية، ولذلك نصت مقررات الحوار، على حظر انشاء الاحزاب على اساس ديني، او مذهبي او مناطقي او طائفى، وجرمت اي قول او فعل يكفر الاخرين، افرادا كانوا او جماعات.
لقد اقترحنا شرطة قضائية لان الكثير من الاشخاص يقضون نحبهم قبل الوصول الى العدالة، او تنفيذ الاحكام القضائية.
كما منحت مقررات الحوار، سلطات ومشاركة تفضيلية للجنوبيين، واعتبار قضيتهم هي أساس الحل للمسألة الوطنية، بما في ذلك حكما فيدراليا بمؤسساته التشريعية والتنفيذية المستقلة، مضمونة بهيئة وممثلين منتخبين لحماية هذه السلطات، وتعطيل اي محاولة التفاف عليها.
ليس فقط هذا ما يجعل وثيقة الحوار مرجعية ذات اولوية للالتحاق بركب التحديث، إذا مانظرنا الى القيود المشددة من اجل حماية الحقوق والحريات والمواطنة المتساوية، واعادة توصيف وظائف الاجهزة الامنية والعدلية، كحصر سلطات اجهزة الاستخبارات بوظائف جمع المعلومات وتحليلها، وإلحاق مصلحة السجون بالقضاء المستقل.
ولاشك أن الاحباط، استبد بكثيرين خاصة مع استمرار ماكنة الانتهازيين في تصوير بلدنا كما لو أنة حالة استثنائية عصية عن الحل، دفعا نحو القبول باقل شروط ومتطلبات الحياة الكريمة.
ولا شك ايضا ان المعركة من اجل استعادة السلطة ما تزال طويلة، باعتبارها كفاحا يوميا بما في ذلك هذا الصبر المنقطع النظير، انتظارا للخسارة المحتومة لمشاريع الاحتراب والقوة الغاشمة.
واذا كنت من الباحثين عن سبب لمغادرة الاحباط بامكانية التغيير، فان مقررات الحوار لم تكن اختراعا جديدا، بل احكاما لتصحيح المسار وفق معايير معتمدة، كانت مستحيلة بالنسبة لشعوب عديدة، قبل ان تحاول الوصول اليها خلال عقود اكثر صعوبة.. وما علينا سوى ان نحاول الدفاع عن تنوعنا وشراكتنا، ليس انتقاما لآبائنا بل ضمانا لمستقبل اجيالنا، او الاستسلام لجولات عنف لا تنتهي.